عن هذه النشرة  |  اتصل بنا 

مقابلة مع السيد
فرانك سينكلير
(Frank Sinclair)

وثاقة صلة تعاليم غوردجييف بالعالم المعاصر

فرانك سينكلير
السيد فرانك سينكلير
صيف 2009
صورة: طوني لحود

فرانك سينكلير هو رئيس مؤسسة غوردجييف في نيويورك، وهو عضو فيها منذ خمسين عامًا. هو ذاته لم يقابل السيد غوردجييف، لكنه ولمدة طويلة كان طالب أحد تلاميذ غوردجييف الرئيسيين، مدام جان دي سالزمان. هو مؤلف Without Benefit of Clergy: Some Personal Footnotes to the Gurdjieff Teaching (بدون فائدة الكهنوت: بعض من الهوامش الشخصية لتعاليم غوردجييف). نقدم هنا مقابلة أجريناها معه في منزله القائم على ضفة نهر الهدسون  (Hudson) في غراندفيو (Grandview) في آب 2009.
 

طوني لحود

 

طوني لحود: نظرة غوردجييف عن الإنسان مزعجة تمامًا، فهو يقترح أنّ الإنسان كائن منقسم على نفسه؛ الإنسان نائم؛ الإنسان آلة أوتوماتيكية؛ وهلمّ جرا. هذا مُبهَم تمامًا للإنسان العادي.

فرانك سينكلير: نعم، يبدو مُبهمًا تمامًا. لكن عندما تنظر إلى الحالة الموجود فيها العالم ترى جنونًا هائجًا، تعصّبًا دينيًّا وقوميًّا، قتلًا متعمدًا ووباء حرب، وجميعها باسم مثاليات عُليا وغالبًا باسم المقدّس. لم يلفظ غوردجييف كلماته متصنّعًا عندما يقول إننا نعيش على نوع من كوكب مجنون. هو حقًّا ينادينا أن نرى الحقيقة عن حياتنا.

لا يبدو أن غوردجييف ذاته يتكلم بشكل مباشر عن العصور العظيمة أو عن دورات زمنية للإنسانية، فالعديد من معلمي الإيزوتيريك في القرن الماضي يوافقون على أننا نعيش في عصر من الانحطاط الروحي. فهم يشيرون، على سبيل المثال، إلى العصر الفيدانتاوي Vidantic من الكالي يوغا Kali Yuga. وهم يروننا نأتي إلى نهاية تلك الدورة بالتحديد، التي بها كل شيء نعرفه ينحلّ. غوردجييف لم يتكلّم عن هذا بهذه المصطلحات، لكن لا بدّ من أنه كان مدركًا لها. هو يتكلم عن شعاع الخليقة Ray of Creation كعملية ضخمة سائرة بانحدار – عملية سائرة بالتفاف involutionary بها تنمو الأشياء وتتكاثر لكنها في النهاية تنحلّ. من الغريب أن هذه العملية تبدأ وقت الخليقة. الأشياء تأخذ بالتدهور في اللحظة التي بها خُلق العالم.

لكن غوردجييف، بالإضافة إلى ذلك، يشير بصورة واضحة جدًا إلى أنّ إمكانية الذهاب ضد ذلك الجريان، الذهاب ضد ذلك التيار، قد أُعطيَت لنا؛ ونحن بني البشر موجودون بهذه المكانة الاستثنائية. إننا لسنا موجودين هنا فقط لخدمة الطبيعة، لكن، أيضًا، للرجوع إلى المصدر. تلك الإمكانية لم تُعط لشجرة أو لكلب؛ بل أُعطيت لنا نحن بني البشر فقط أو، كما يطلق علينا باسم: كائنات ثلاثية العقول. ثُمّ، طبعًا، نحن لا نستطيع الرجوع كما نحن. علينا أن نكون منتظمين aligned بطريقة أخرى، حول الانتباه، الذي سيمكننا من أن نكون متفتحين لقبول الطاقات "من العُلا" بحسب كلماته. إذًا، هذا هو السرّ بالنسبة لي، إذا جاز التعبير، أو المعنى الحقيقي لما قصده غوردجييف عندما تكلم عن الحاجة لـ"التطور المنسجم للإنسان". عندما تسمع هذه الفكرة لأول مرة تظن: "آه، لا بد أنه يعني أنّ علينا أن نكون وديين، صالحين، ومقبولين اجتماعيًّا". لكنه ليس كذلك، إنه فقرنا للوجود. لهذا السبب، كما يبدو، تتواجد الأشياء بلا نظام وبشكل متبعثر. من وجهة نظر معيّنة، هذا ليس ذنبنا. فقد قال غوردجييف إنه في مكان ما على طول الخط فقدَ أجدادنا وأجدادهم معنى الحياة.

هذا متعلق بشكل كبير بفكرة العدْل. من الممكن لنا نحن الذين على قيد الحياة الآن أن نصحّح الماضي ونحضّر للمستقبل. أجدادنا وأجدادهم يعجزون أن يغيروا أي شيء الآن، لكنه لشرف لنا ومن مسؤوليّتنا أن نحلّ أخطاء قديمة في سلالتنا. فقد قال: "أنت حلقة في سلسلة دمك. كن فخورًا بها. فهو لشرف أن تكون هذه الحلقة". هذا يمثّل وجهة نظر مختلفة بالكامل عن ماهية حياتنا.

ط. ل.: نحن أهل العصر الحديث لا ندرك الأشياء على هذا النحو. هل هذا ما أشار إليه عندما تحدّث عن "فظاعة الوضع" "terror of the situation"؟

ف. س.: وضعنا بالأحرى ماسٌّ جدًا، لجميع الأسباب الموضّحة في عمله الرئيسي، الكل وكل شيء: حكايات بعلزبول لحفيده. نحن نفتقد الوجود الحقيقي، ونحن لا نرى هذا. بالنسبة لغوردجييف، الإنسان السويّ normal يدرك بالحاجة لواجب-وجود being-duty، العمل من أجل الوجود. وهذا ليس فقط من أجل نموّه الشخصي، إنّه من أجل تبادل كوني خاصّ. أنا أسميه التبادل العمودي: كجزء من الحياة، أنا آكل ومأكول تباعًا كجزء من تبادل كونيّ من الطاقة. وبالتالي، ثمة حاجة لنا من قبل الأعلى – في الحقيقة، هناك حاجة لنا، كما قال، من قبل الخالق ذاته. مرّة أخرى، هذا غامض جدًّا، لكن الفرد يستطيع أن يدرك المبدأ أننا خُلِقنا لنمكن الخالق من التغلّب على الانحدار الإنتروبي 1  entropic الصارم الذي لا يرحم لكلّ القوّة. إذًا، بالنسبة لي، هذا شيء علينا أن نعْلَم به. بحسب غوردجييف، لقد خُلقنا لنخدم هدفًا عظيمًا جدًا - لنجدّد الطاقات الدقيقة fine energies التي تجسّدت في أحوال الوجود العديدة (باستعمال لغة غينون – Guenon)، وبالتالي لتمكّنها من التطوّر، أي، لترجع بدرجات مختلفة من "التنشيط" (باستعمال مصطلح القديس بولس – St. Paul).

ط.ل.: إذًا، أنا نائم كجزء من برنامج أكبر، كجزءٍ من خطّة كونية؟

ف.س.: أنا نائم، لكني بحاجة أن لا أكون نائمًا. لا يوجد أي سبب عضويّ لفقداننا الوعي، بحسب غوردجييف. هو ينادينا لنبذل الجهود المتطابقة لنستيقظ، وبعملنا هذا نستطيع أن نبدأ بخدمة هذا التيّار الآخر. إن لم أفعل هذا، فأنا ببساطة سأكون "طعامًا للقمر" باستعمال مصطلحاته المرجعيّة متعدّدة الألوان. وفي حدّ هذا أنا فقط طُفيل أستهلك من الطبيعة، استهلك من الإنسانية، استهلك من الحياة، أعيش فقط لإرضاء نفسي. شيء مركزيّ في تعاليم غوردجييف هي الحاجة – ملائم أكثر، المطالبة - الدفع لأجل نشوء الفرد، الدفع لأجل ولادتنا. وخلال هذا المجهود من الممكن للفرد أن "يخفّف حزن" الخالق.

الآن، هذا سؤال كبير ولديّ صعوبة في التكلّم عنه. الخالق خلقنا والآن هو يعاني من وضعنا. أظنّ، إذا تعمّقت بهذا، وجب عليه أن يعاني. يتذكّر الواحد أن أحد تلاميذ غوردجييف الأوائل، ب.د. أوسبنسكي، أطلق على الحياة على الأرض اسم "مصنع ألم". ولكن هكذا أيضًا فعل بوذا (Buddha)، عندما تكلّم عن معاناة الإنسانية.

يبدو أحيانًا أن حياة الإنسان، فعلاً، غريبة، وربما حتى مجنونة. لكن لهؤلاء الذين مع ضمير، يصبح، بوضوح أكبر، أنه ليست الحياة للإرضاء الشخصي. في الواقع، غوردجييف قال على الأقل في مناسبة واحدة، وبشكل جليّ، أنّ "جميع الملذّات بذاءة". يبدأ الفرد بفهم ذلك جيدًا من خلال جهوده التي يبذلها كي لا يكون آليًا، وكي لا يكون نائمًا، وأن يقبل أن يكون متسائلاً.

ط.ل.: أين تدخل فكرة دراسة النفس في هذا؟ كيف لـ"نتائج" جهودي أن تتعلّق بهذه النظرة الكونية؟

ف.س.: بشكل واضح، أنا بحاجة أن أعرف أكثر فأكثر عمّا أطلق عليه غوردجييف بالقوانين: خلق العالم وصيانة العالم. Laws of world creation and world maintenance. وأنا أيضًا بحاجة أن أعرف المزيد عن بنيتي أو طبيعتي. كيف تتركّب كينونة الإنسان وما هي القوانين التي تخضع لها؟ لقد أنشئنا بذكاء عظيم، على ما يبدو. لم نُجَمع معًا مجرّد صدفة. بطريقة ما، خلف كل هذا لا بدّ من وجود ذكاء عميق جدًا intelligence غير معروف. ولكي أصبح أنا ذاتي أكثر ذكاء، أنا بحاجة لفهم ليس فقط كيف أؤدّي وظائفي، بل أيضًا كيف أنا بحاجة لأن أؤدّي وظائفي. لأنّه خلال نومنا وفقداننا للوجود، نكون منفصلين عن ذلك الذكاء المركزي الذي نتجاهله. تولي عمل دراسة النفس هذا هو طريق لتقرّبي من الانسجام مع ذلك الذكاء. لذلك، إنه شيء حاسم جدًا أن نبدأ بفهم المزيد عن القوانين التي تحكم حياتنا.

ط.ل.: إذًا، تعاليم غوردجييف هي نوع من دعوة إلى دراسة النفس التي من الممكن أن ترشدني نحو فهم جوهريّ عن نفسي وعن الحياة.

ف.س.: نعم، ولكن غوردجييف حتمًا لم يكن الوحيد الذي فهم هذا. المسيح، بوذا، محمد، كل واحد من هؤلاء الرسل العظماء أو الأنبياء نقل هذه التبصّرات الأيزوتيريكية العميقة من وجهة نظره الخاصة. هؤلاء المعلّمون العظماء ليسوا على خلاف، وهم لا يتبارون. فهم يعبّرون عن الوحدة الموجودة في الأساس لجميع الأديان العظيمة. غوردجييف، أيضًا، موجود في ذلك التيّار من المعرفة العظيمة. على هذا النحو أنا أراه.

ثمّ عندما تدخل في تعاليمهم، ترى أنّ جميعهم يتكلّمون عن ذات الواقع – أنه يوجد لنا طبيعتان. طبيعة واحدة تخصّ هذه الحياة الوظائفية (حياة العقل، العاطفة، وعمليات الغريزة\الحركة)، وطبيعة أخرى هي التيّار الذي يجسّد "الأعلى"، الطاقات من مستويات سامية، والتي نكون منغلقين عنها، بشكلٍ عام. لقد جلب غوردجييف هذا الفهم الأساسي إلى انتباه حتى أصغر تلاميذه. سجلات لقاءاته في باريس 2  تدلّ، بشكل واضح، أنه أراد أن يفهم تلاميذه ما هو هذا الذي كانوا يستكشفون، وليس فقط أن يصبحوا "قدّيسين حمقى". لقد أُستُنتِج الكثير من غموضه الظاهريّ، وهذا مُتعزّز من قبل الصعوبة في فهم الفكَر المقدّمة في [كتابه] "الكل وكل شيء". لكن في لقاءاته كان واضحًا جدًا في رغبته أن يفهم الناس معنى هاتين الطبيعتين. البرهان على أنّ هنالك طبيعة ثانية هي تلك اللحظات التي أستيقظ فيها، حتى ولو للحظة. هذا الشيء الآخر ليس الفكر، هو ليس العاطفة، وهو ليس جسمي. أنّه واقع آخر. وعندما أستيقظ، وعندما أحاول أن أعمل، أو أن أحاول أن أبدي [وظائفي] بطريقة أكثر تكاملاً، ذلك يسمح لهذه اللحظات بالظهور. أنا ضروريّ لتلك القوّة غير المعروفة لكي تعمل. لكنها لن تعمل لمجرّد أنّي موجود.

ط.ل.: بطريقة بسيطة جدًا، ما الفرق بين حال النوم وحال اليقظة؟

ف.س.: أنا أعتقد أنّ غوردجييف أصرّ على أنّ حال اليقظة الحقيقي هو عندما أكون على علاقة مع الضمير. وعندها فإنّ الناس الذين "يعملون"، والذين يعيشون مع ضمير، لن يكونوا على اختلاف، ولديهم القيم ذاتها. عندما أكون غير كامل وغير مستهوِ  3  identified (في حال الاستهواء - ملاحظة المترجم) فأنا مجرّد محبٍّ للذات، مدمّر، عنيف، غير مبالٍ، وينقصني الوعي. الضمير هو طاقة عالية جدًا تأتي من مصدر عالٍ جدًا. وهي لا تستطيع أن تصِلني، لا تستطيع أن تُحدث أثرًا في داخلي، إذا كنت في حال فوضى داخليّة. لا تستطيع أن تدخل.

ط.ل.: إذًا دوري هو أن أعمل في هذا الاتجاه؟

ف.س.:هو أن أحضر نفسي إلى الانسجام مع تلك الإمكانية.

ط.ل.: هل لنا أن نقول إن هذا هو هدف "حركات" غوردجييف، والتمارين المختلفة، والمهمّات التي أتى بها لكي ينادي الناس إلى الانتباه؟

ف.س.: التعاليم هي بشأن الانتباه، نوع خاصّ من الوعي، وعي نفسيّ. الوعي consciousness هو شيء عالٍ، لكنني أعتبر الانتباه كنوع من "الأنتينا" antenna، توجيه دعوة للوعي وللضمير. غوردجييف شدّد، دائمًا، على أنّ الفرد هو انتباههُ. إذا لم يكن هناك انتباه، إذا أنا مجرّد شيء، آلة ذات حركة ذاتيّة. في الحقيقة قال غوردجييف ذات مرة: "إذا لم تكن رابط الجأش collected فأنت فقط قطعة لحم". لقد أعرب عن ذلك بشكل فظّ لهذه الدرجة. أنا غير منتبه بشكل آليّ: يجب عليّ أن أعمل من أجل ذلك. يجب عليّ أن أفرّق، يجب عليّ أن لا أستغرق في أحلام اليقظة، يجب عليّ أن لا أجد مجرّد مَنْفَس لسلبيّاتي. وبالتالي، فهذا عمل لاصطفاء ولانسجام حياة وظائفي.

ط.ل.: من المثير أنك تذكر أن العمل هو من أجل اصطفاء حياة وظائفي. في اللغة العربية أحد الاقتراحات عن أصل الكلمة "صوفي" هو الكلمة "صفا"، والتي معناها الصفاء. فالصوفيون يُسمّون أحيانًا "أهل الصفا". وهناك شائعات على أنّ غوردجييف كان صوفيًّا. هل تعتقد أنّه كان كذلك؟

ف.س.: هذه الشائعات موجودة. كما تعرف، العديد من التقاليد تدّعي أنه ينتمي لها، بمَن فيهم الصوفيون. لقد رأيت قضية للنقشبنديين، على سبيل المثال. لقد ارتدى غوردجييف طربوشه كوسام شرف فعليّ بدون شك. لكنّي أشكّ أن يكون من الممكن اعتباره مسلمًا تقليديًّا بسلوكه، كما يُظهِر استعماله للكحول. لكن، لا أظنّ أنها قضية بسيطة بهذا المقدار. على سبيل المثال، لقد نضج ومات في بيئة التقليد الأرثوذكسي الشرقي، الدين المتّبع في صباه. في نفس الوقت، لقد كان مكشوفًا على الدراويش، كان مكشوفًا على الإسلام. لا بدّ من ذلك خلال رحلاته في الشرق الأوسط. لكن وجب على ذهابه إلى ما بعد السطح الخارجي للهيئات إلى صميم الأشياء وجَعَلها ملكه مطلقًا. إذًا، نعم، لا بد من أنه وجب على وجود تأثير إسلاميّ قوي عليه، تأثير صوفي قويّ. كان هناك، أيضًا، تأثير مسيحيّ قوي. لكن، كما أرى، ليست المسيحية الكاثوليكية. مسيحيّته كانت المسيحية الشرقية. كذلك، أظنّ أنه في مصر انكشف على التأثير القبطيّ. على النحو المشار إليه، كان له فهم واسع - رحيب الأفق. حتى في الطريقة التي بها تكلم عن يهوذا [الأسخريوطي - ملاحظة المترجم]، فهناك أسس تاريخية أصبح العلماء يعرفون بها مؤخرًا، فقط. في لبّ تعاليم غوردجييف، أنها تعاليم مصدر؛ لقد قال دائمًا إنه مرتبط مع مصدر متعلق بمعرفة – المعرفة العظيمة – وُجِدت قبل جميع التقاليد المعروفة.

ط.ل.: ومصدر جميعها واحد.

ف.س.: نعم، ميتافيزيقيًا من الواضح أنّه واحد.

ط.ل: لقد ذكر غوردجييف أيضًا "الأخوية الكونية". Universal Brotherhood، من الصعب رؤية ما قصده بالفعل من هذا.

ف.س.: هذا سؤال صعب آخر. غوردجييف بدا أنه خبّأ أو أخفى العديد من مصادره. نحن لا نعرف ما إذا كانت هذه المصادر حقيقية أم لا. ربّما أخبر مادام دي سالزمان إلى أين ذهب بالفعل. لديّ نظريّاتي كما لدى العديد. ربّما كانت هناك، أو توجد الآن "أخوية كونية" من الأشخاص الذين كانوا (أو هم الآن) متحدين بطريقة مركزية وباطنية جدًا. أنا لا أعرف.

ط.ل.: استعرضت تقاليد أخرى الفكرة نفسها، ربّما من دون استعمال المصطلحات نفسها. لكن، يظهر أنّ هنالك أخوية ما مرتبطة بطريقة ما.

ف.س.: لا أريد الشكّ في ذلك.

ط.ل.: على سبيل المثال، يذكر القرآن الكريم "إنّما المؤمنون إخوة" [سورة الحجرات - ملاحظة المترجم]، ربّما لم ينسبهم لفرقة دينية واحدة أو لطائفة معيّنة.

ف.س: هذا ربّما على مستوى آخر.

ط.ل.: يبدو أنه وجب على الفرد أن يرقى بنفسه لذلك المستوى من أجل أن يصبح مؤمنًا.

ف.س.: لقد قال القديس أوغوستين St. Augustine، أن ما نسمّيه بـ"المسيحية"، وُجدت قبل ولادة المسيح بعهد بعيد. هذا بالنسبة لي، ما يتكلم غوردجييف عنه. مفهوم المعرفة العظيمة يريد التلميح إلى أنّ خلف جميع التقاليد، هناك حقيقة أساسيّة غير قابلة للانقسام، وهي أن التقاليد تنبثق من المصدر المطلق ذاته.

ط.ل.: من الممكن أن يتساءل الفرد: بما أنّ هناك مصدرًا واحدًا، يصدر التقاليد، وعلى طول الزمن تتكوّن هيئة التقاليد التي ترضى الناس بها. فيتبع المسيحيّ المسيحية وهو راضٍ بذلك، ويتبع الهندوس الهندوسيّة راضين. والمسلم يتبع الإسلام راضيًا، وهلمّ جرًا. لماذا أراد غوردجييف أن يأتي بما يَظهر كتعاليم جديدة؟

ف.س.: عندما أتى غوردجييف إلى الغرب كانت أغلب المفاهيم التقليدية، إذا لم يكن جميعها، قد نُسيـت و\أو فُقدت. كان فهم معانيها سطحيًّا، أو شكليًّا، إذا أردنا استعمال مصطلحاته. منذ الإصلاح الديني 4  أصبح النموذج الديكارتي 5  هو المسيطر: فقط ما يمكن قياسه ووزنه، يمكن اعتباره حقيقيًّا. جميع الجوانب المحجوبة الأخرى من الواقع أُسقِطت. الإدراك بواقع متعدّد الأبعاد وبما هو مقدّس وروحي، مفقود. لقد أرجع غوردجييف إلى الغرب المعنى المفقود للمقدّس. وقد استعمل لغة جديدة لأنّه شعر بأنه حُطّ من قدر ما يُسمّى بالطرق التقليدية. لقد أتى بتعاليمه إلى الغرب ليتحدّى الفكر الأوتوماتيكيّ والاعتياديّ للإنسان المعاصر. مرة أخرى، تعاليمه هي فهم إيزوتيريكيّ، وهي ليست للجميع. هي فقط لهؤلاء الذين يتمنون حقًا أن يعرفوا.

ط.ل.: إذًا، في ضوء ذلك، لم يحاول أن يؤسّس دينًا جديدًا.

ف.س: لا. تعاليمه ليست دينًا جديدًا، بالأحرى هي رجوع إلى التقليد tradition. في الحقيقة، الأشخاص الذين يعتبرونها دينًا جديدًا هم بالفعل على خطأ. تعاليمه مستمدّة من فهم ٍٍ قديم جدًا. أن نفكّر خلافًا ذلك يُظهِر مدى سطحية تفكيرنا. من الممكن للناس أن يعتبروا تعاليمه دينًا جديدًا، لكنه لم يخترعها؛ لقد أحضر شيئًا مُسْتمَدًا من، ومتعلقًا بتيّارِ علم قديم جدًا، ومن هذا المنظور فهو لا يتناقض مع التقاليد الرئيسية. في الواقع، من الممكن لنا أن نفهم الديانات الرئيسية بشكل أفضل عندما نبدأ بفهم ما يدعونا غوردجييف إلى فهمه.

ط.ل.: عندما تذكر "تقليد"، أتقصد مدرسة، أي مدرسة كقسم من ذرية مدارس؟

ف.س.: نعم، أظنّ ذلك. يظهر أنّ هنالك سلسلة أو شبكة شاسعة وقديمة من العلاقات. كيف يمكن، بطريقة أخرى، مساندة الحقيقة في وجه جميع انقضاضات المصالح الدنيوية السطحية؟ كيف يمكن، بطريقة أخرى، أن تنجو الحقيقة من جميع الكوارث الأرضيّة التاريخية، المسجّلة وغير المسجّلة؟ أعتقد أنّ غوردجييف كان ثمرة مدرسة. فهو لم يكن أناقة الطبيعة، لكن ثمرة مدرسة.
بشكل متزايد، أيضًا، يُعرف غوردجييف لتأثيره في علم النفس وفي مجالات متّصلة بها أخرى.

ط.ل.: في العلوم عامةً، حتى في الطبّ.

ف.س.: نعم.

ط.ل.: ربّما من الممكن أن نلمس الجانب الإنساني من غوردجييف. أقصد، أنّه كان إنسانًا؛ إنسانًا إنسانيًا. فقد كان متزوجًا، وله أولاد، وكان يشتغل في عدّة مهن.

ف.س.: لقد كان، كما قيل، "في الحياة". وصنع وخسر ثروات بخدمة تعاليمه. لم يلق نفسه خلفًا خاملاً بانتظار الحياة لترضي حاجياته. أذكر عندما كنت شابًا، قولي لمادام دي سالزمان: "من السهل لكِ، كمدام دي سالزمان وللسيد غوردجييف كالسيد غوردجييف أن تقولوا "يجب عليك أن تتذكّر نفسك" لكن ماذا بشأني؟". وقالت:"أتعرف؟ لقد قلت نفس الشيء للسيد غوردجييف" وأجابها:"إذا أتيتِ إلى غرفتي في الساعة الثانية صباحًا ستسمعين صرير أسناني وأنا أبكي بكاء مرًا على وسادتي". تساءلتُ دائمًا لماذا عانى. وقد أدركت بعد موت زوجتي أنه خسر زوجته. لقد أسماها: "الزوجة المحبوبة بشكل لا نظير له". لقد أدركت أنني أستطيع أن أفهم شيئًا من معاناته لأنّه لم يتظاهر أنّه ذو مناعة؛ لقد كان كائنًا بشريًا حقيقيًّا. وحقيقة أنه كان يعاني مثل أي مخلوق فانٍ أبرزت شامل إنسانيّته. لقد عانى وكان شفوقًا جدًا بسبب كفاحاته ومعاناته. كان يساعد الفقراء باستمرار، كان يساعد الناس الذين لم يكن عندهم مال، كان يساعد الناس الذين لم يكن عندهم طعام. كان كريمًا وشفوقًا بشكل استثنائيّ.

ط.ل.: لقد خدم حتى تلاميذه، حضّر لهم الطعام وهلمّ جرًا.

ف.س.: نعم. ومع أنّه كان معروفًا بصياحه وبشتمه للكهنة وقت قيادته السيّارة، فقد قُبر في محيط الكنيسة. لقد فهمتُ أنه في أيامه الأخيرة قاد سيارته إلى الكاتدرائية الروسية في باريس، وببساطة جلس بهدوء خارج سيّارته. أُخمّن أنه عرف أنه سوف يموت عن قريب. وقُبر في صميم الكنيسة، إذا جاز التعبير. إذًا، أظنّ أنّ ما أظهره كان إخلاصه التامّ لإيمان صغره، أو لما تريد تسميته.

لقد كتبت في كتابي  6 Without Benefit of Clergy، كيف توصّلت إلى الإدراك أنّه في العمل كنت في الحقيقة أتعلّم كيف أصلّي. وعندها تذكّرت كيف ذُكر أنه في نسخ الاجتماعات في باريس 2  سأله تلاميذه: "السيد غوردجييف، كيف لنا أن نصلي؟" وهو أجابهم بمباشرة ودقّة كبيرتيْن. إذًا، فهو كان رجل دين بصورة ملحوظة، خادمًا لله. لقد قصّ العديد من الناس عن لحظات أظهر بها غوردجييف بالفعل جانبًا منه كان من دون شك روحيًّا. شيء خاصّ جدًا.

ط.ل.: هناك انطباع بأنّه أتمّ واجبات الحياة ووفى بها. لكن في نفس الوقت، كان له دور استثنائي لكونه معلمًا، ومسؤولية هائلة ضمن الحياة، بدون الانفصال عن الحياة. نحن لا نتكلّم عن إنسان ذي تعدّد شخصيات في هذا المفهوم؟

ف.س.: لقد كان أصليًّا وكاملاً. كان إنسانًا كاملاً، وبالتأكيد لم يكن مصابًا بانفصام الشخصية. بَعدَ بعض عقود من الدراسة والبحث، أتيت لهذا الإدراك – يجب أن يكون ذلك هدفنا أن نكون مثلما هو كان، أداة للروح. أنا لا أتكلّم عن تقمّص الأرواح، لأنّ هنالك واحدة فقط، أي الذات، التي تتقمّص. نحن هنا لنخدم كأدوات تلك الروح التي تفعمنا بالحياة. نحن هنا لنمكن قوة الوعي من إظهار نفسها من أجل العناية الكونية العظيمة الذي أوضحها غوردجييف بشكل شامل. فقد سمع المرء عن هذه الدعوة للإحياء لدى محمد، بوذا، والمسيح.

ط.ل.: ماذا كانت علاقة غوردجييف بتلاميذه؟ من الواضح أنه لم يرد أن يتألّه، كما مال بعض تلاميذه أن يفعلوا. لقد استدعى الانتباه لتعاليمه وليس لنفسه. علاوة على ذلك، بيتير بروك (Peter Brooke) قال إنه من الخطأ التكلم عن غوردجييف كمن بدأ حركة، وأنه كان يطلب من نفسه ما تطلب من تلاميذه، وأضاف أنه كان يبتغي إثارة تفكير مستقل واستقلالية مشاعر من تلاميذه.

ف.س.: قطعًا. لقد فهم غوردجييف أننا جميعًا مخلوقات بشرية مع حالات ضعف، بعضها فظيع وبعضها مغروز عميقًا في الجوهر. 7  لكن العمل للإحياء يحدث في هذه البيئة. لم يُحضر العمل لتعزيز حالات الضعف تلك. ليس لتعزيز الأنويّات egoismس بل لإضعاف أو حتى لهدم الأنويّات. في نفس الوقت يوجد للفرد الانطباع أن غوردجييف شجّع أنويات ذات صحة جيدة. لقد سعى وراء الحالة السوية normality لأنه فقط في محيط سويّ يمكن للفرد أن ينفتح على الحقيقة. يمكن لغرور ذي صحة جيدة فقط أن يعرف وقت التخلي، أن يأخذ خطوة إلى الوراء، أن يتنازل، أن يستسلم لما هو أسمى. من المقدّر أن هنالك فقط خمسة آلاف شخص في المؤسسات [التي تدرس تعاليم غوردجييف - ملاحظة المترجم] عالميًا. إنّه ليس عدد كبير، لكن هذا يعني أن هناك جودة حقيقية من البحث في ذلك المحيط. لكن هنالك عدة مستويات. وبالنسبة لي، المؤسسات هي على الأرجح المكان المحافظة على التعاليم، لأنها غير منتشرة بكل اتجاه، المؤسسات هي أيضًا المكان الذي فيه تُصان وتستكشف أفكار غوردجييف وحركاته بشكل حذر.

ط.ل: من المثير أنك تذكر الأيجو ego وإمكانية الأيجو ذات الصحة الجيدة أن يتنازل وقت الضرورة، وأن يعطي المجال. أليس هذا بطريقة ما متعلق بالتسليم. على فكرة، ربما تعرف أن أحد معاني الكلمة "Islam " هو التسليم submission.

ف.س.: أظن أنه ذلك. إنّه القبول بالكون تحت سلطة باطنية؛ إطاعة. وإطاعة ماذا؟ ربّما إطاعة ذلك المبدأ في داخلي. أعرف مكاني، أعرف واجبي. وفي النهاية من كانت له أنوية egoism ذات صحة جيدة يعرف متى يستسلم. هنالك ترنيمة قديمة تقول :"إذا أحببتهُ فلمَ لا تستسلم؟" إنه كذلك. ليس هو باستسلام غبيّ، بل استسلام ذكي intelligent. إنه المعرفة بوجود، إذا أردت، مراتب وجود. وأنا أتقبل ذلك. الآن حركة التقبّل هذه، هي في ذلك الحين حركة بالاتجاه إلى وجود متكامل أكثر، منتظم أكثر. هنالك نظام جديد داخلي، وأنا أحترم ذلك. العمل التابع لغوردجييف هو تعاليم مترابطة منطقيًا بدرجة عالية.

ط.ل: أحد الأشياء المثيرة جدًا عن التعاليم، هو أن كل شيء يحدث داخليًا. فهو باطنيّ. التعاليم هي بشأن تأسيس شيئ في باطن الفرد.

ف.س: أنه بالفعل بشأن ذلك – "العالم الثالث للإنسان" أو "عالم الروح". فالحقيقة لا تُستمدّ من نظام خارجي مفروض. فهي تحضُر خلال انبثاق لنظام داخليّ. إذًا تعاليم غوردجييف تؤشر نحو بعد عمودي من الواقع – تلك "جميع إمكانيات الإنسان تحضر من العُلا". يبدأ الفرد باحترام ذلك وبالانفتاح لذلك. وبفعلنا ذلك فنحن، عندها، نساهم في تحقيق الحاجة الأكثر عمقًا للمطلق ذاته – من الممكن لعَظَمَة ولا نهائية المصدر أن تنعكس بالرجوع له خلال الروح المنشّطة. كما يملكها التقليد الإسلامي: شاء الخالق الخليقة لأنّ: "أنا كنت كنزًا مخبّأ وأردت أن أكون معروفًا".

ترجمة: سوسن لحود وفيليب كلداوي


عودة الى الصفحة السابقة



  • مصطلح إنتروبية entropy (يعرب أحيانا بكلمة اعتلاج ) مصطلح أساسي في الفيزياء ضمن التحريك الحراري في الغازات أو السوائل ، وخاصة بالنسبة للقانون الثاني للترموديناميك ، الذي يتعامل مع العمليات الفيزيائية لأنظمة التجمعات الكبيرة للجزيئات و يبحث في شروط مسيرها كعملية تلقائية أم لا . ينص القانون الثاني على مبدأ أساسي يقول بأن تغيرا تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد أن يصحبه ازدياد في مقدار إنتروبية هذا النظام. تميل التغيرات التلقائية عموما لأن توازن الاختلافات في النظام مثل الحرارة، و الضغط، أو الكثافة . و أيضا الكمون الكيميائي ضمن أي نظام فيزيائي أو كيميائي بحيث تقلل الفوارق لأقل مقدار ممكن ليصل النظام لحالة من التوازن . الإنتروبية ضمن هذا المفهوم هي مقدار تقدم عملية التعديل هذه (المصدر: wikipedia.org).
  • سجلات نشرت بكتاب بعنوان: G. I. Gurdjieff, Transcripts of Gurdjieff's Meetings 1941-1946
  • استهوى أو حال الاستهواء: Identification.حسب تعاليم غوردجييف, استهواء هو حال فيه يقضي الإنسان جزء كبير وحاسم من حياته. فهو "يُستهوى" في كل شيء: مزاجاته, كلامه, تفكيره, مشاعره, وفي أي شيء يجده جذاب, أو أي شيء يجده مرفوض, وهلم جرا. في حال الاستهواء, الإنسان يتدامج مع, أو "يُسْرَق", أو الأشياء تَسّتَحوِذه, سواء كانت داخله أو خارجه. هناك درجات من حال الاستهواء: استهوئات سطحية, وهناك استهوئات جذورها ممدودة عميقاً في نفس الإنسان. لدراسة هذه الفكرة الرئيسية من تعاليم غوردجييف, يمكن الرجوع إلى كتاب بيتير أوسبينسكي:"في البحث عن العجيب", صفحات 150-151.
  • الإصلاح الديني – الحاصل في القرن السادس عشر والذي أدى إلى تأسيس الكنيسة البروتستانتية.
  • المُنسوب لرينيه دي كارت.
  • Without Benefit of Clergy. U.S.A: Xlibris, 2005 بدون فائدة الكهنوت.
  • الجوهر: Essence. تقر تعاليم غوردجييف، أن الإنسان يتكون من قسمين: جوهر وشخصية. الجوهر في الإنسان هو ما يكون خاصته. الشخصية في الإنسان هي ما 'لا يكون خاصته' أي جميع الأشياء التي حصل عليها من الخارج بما فيها ما تعلمه، وجميع أثار الإنطباعات الخارجية الموجودة في ذاكرته، عاطفته، وأحاسيسه. للمزيد عن هذه الفِكرة نوصي بقراءة المقطع بين الصفحات 110 و 130 من كتاب: Taward Awakening.
الرئيسية | مقدمة | الحركات | الموسيقى | كتاباته | قرائات | تلاميذه | عمل المجموعات | خاص بنا

عن هذه النشرة | اتصل بنا

كافة الحقوق محفوظة ©