عن هذه النشرة  |  اتصل بنا 

 

عودة الى الصفحة السابقة

ذبذبات

د. كريستيان ورتنباكر  ¹ 
(Christian Wertenbaker)


قام ج. إ. غوردجييف بمساهمة كبيرة لفهم الكوْن ولِموْضع المرء فيه بوساطة ما وصفه بأنه معرفة قديمة جدًّا، قدّمها بهيئة معاصرة "بالتناسُب مع هيئة التفكير الراسخة الآن في أوساط الناس المعاصرين" (ج. إ. غوردجييف: الحياة حقيقية فقط عندما "أكون". ص. 144). كان أحد جوانب ذلك شمول وجهة نظر علمية في بياناته التفسيرية.

من المعروف أنه قال إنّ "كل شيء مادة" (نظرات من العالم الحقيقي، ص. 209)، حتى غير المحسوس والمتجاوز لقدرة الإدراك. لكن لهذه الماديّة درجات مختلفة متعدّدة من الرقة، من الأرقّ إلى الأكثر فظاظةً. هذا واضح حتى على المستوى الاعتياديّ: فماديّة المعدن أكثر كثافة من ماديّة الخشب؛ وعندما نلجأ إلى اختلافات أكثر حِدّة في الماديّة بمقارنة الجماد، على سبيل المثال، مع السوائل والغازات، لن نتكلم عن اختلافات في الكثافة فحسب، وإنما عن اختلافات أكثر حِدّة مثل الاختلافات في التصرّف أو حتى الاختلافات المتعلّقة بالأبعاد، أيضًا. على سبيل المثال، عندما يتمّ تحريك الجماد فهو يميل إلى البقاء على نحو مُتّصل، ككيْنونة؛ في حين أن السوائل تسيل على السطح، والغازات تنتشر في ثلاثة أبعاد. بعد هذه المستويات، شعلة النار هي مادة أيضًا، الهَيولى [الهَيولى/ plasma: في علم الفيزياء، هي حالة متميزة من حالات المادة، ومن الممكن وصفها أنها غاز متأيِّن تكون فيه الإلكترونات حرة وغير مرتبطة بالذرة – ملاحظة المُترجمةُ].

النور والذبذبات الكهرومغناطيسية الأخرى، مثل الحرارة، موجات الراديو، الأشعّة X، والأشعّة الكونيّة تُعتبر هي أيضًا، وبحقّ، مادة. فعلوم الفيزياء أثبتت أنّ ما كان يُعتبَر من قبل كذبذبات بوجه حصريّ، تطلب أيضًا وصفه كجُسَيْمات: الذبذبات الكهرومغناطيسية هي هيئة واحدة للنور، والفوتون photon هو هيئة أخرى. والعكس صحيح، أيضًا: من الممكن وصْف الذرّة والجُسَيْمات الأوليّة، أي وحدات مبنى المادة، كذبذبات، أيضًا. إذًا، لن يكون الآن من المتطرّف إلى حدّ بعيد أن نعتبر الأفكار، المشاعر، وحتى روح الإنسان أيضًا، كمادة.

أحد الأوجه الأكثر إثارةً في تعاليم غوردجييف متعلّقة بالذبذبات، ويبدو لي أنّ العلم أثبت، منذ زمنهِ، فِكره بشكل متزايد. أريد أن أُركّز على بعض أوجه ذلك:
قال غوردجييف: "من الضروريّ اعتبار الكوْن بأنه مُكوّن من ذبذبات. هذه الذبذبات تنبثق عن جميع أنواع، هيئات، وكثافات المادة التي تُشكِّل الكوْن؛ فهي تُصْدَر عن مصادر متنوّعة وتتقدم باتجاهات متعدّدة، تتقاطع الواحدة منها مع الأخرى، تتصادم معها، تُقَوّيها، تُضعِفها، وتصُدّها، إلخ.." (ب. د. أوسبنسكي: في البحث عن العجيب، ص. 122).

من الواضح أن كل شيء يتذبذب، بدءًا من الإلكترونات والفوتونات حتى الذرات، الجُزيئات، الخلايا، الأجسام، الكواكب والنجوم. وهي تتذبذب بدرجات تراوح متفاوتة، تتفاعل بوساطة الذبذبات، والأكثر بروزًا منها بوساطة الذبذبات الكهرومغناطيسية، مثل النور. لكي تتفاعل، وَجَبَ على الأشياء أن تكون متناغمة بعضها مع بعض بطريقة ما. فهناك أشكال نمطيّة وعلاقات متناسقة، من جميع الأنواع. وفي النهاية، عندما يجري العلم بحثًا في أصغر مركبات المادة، لن يبقى أيّ شيء سوى معادلات تصف ذبذبات.

الذبذبات هي انتظامات في الزمن، في الأساس. إذا لم يكن هناك انتظام في الزمن، فلن تكون هناك كينونات ثابتة. مبنى العالم الأساسيّ، مع الأشياء المميّزة والكائنات الحيّة فيه، المحافظة على كمالها مدّة زمنية معيّنة، يعتمد على الانتظام في الزمن. لكنّ الانتظام غير ثابت، وإلا فإنه لا يمكن لشيء أن يحدث أو يتغيّر. إذًا، هناك أشكال نمطيّة لذبذبات تتغيّر، تتطوّر وتتفاعل باستمرار.

تصريح آخر لغوردجييف: "تلقّي الانطباعات *  الخارجية يعتمد على تواتر المُحفّزات الخارجية للانطباعات وعلى تواتر الأحاسيس" (غوردجييف، نظرات من العالم الحقيقيّ، ص. 82-83). بعد هذا التصريح، يستمرّ غوردجييف في وَصْف عِدّة أوجه مختلفة من الصوت للعقول أو "للمراكز" المختلفة – الرئيسيّة هي الفكريّ، العاطفيّ، والغريزيّ/الحركيّ. إذا لم يكن المرء مُدَوْزنًا بنحو ملائم، فإنّ قسمًا من الصوت لن يصل إلى المركز المقصود. سيُصبح تلقّي انطباع ما غير تامّ أو مُشَوّه. مثال بسيط على هذا يحصل عندما نسمع شخصًا آخر يتكلم. هناك جوانب متعدّدة للكلام: محتويات ما يُقال وما يُفهم فكريًّا، النبرة العاطفية للصوت، وأحاسيس الجسم الناتجة عن الصوت. فمن الشائع لشخصين أن لا يتّفقا بسبب ردّ فعل الأول على نبرة صوت الثاني، بالرغم من إنّه إذا تمّ فحص الأمر فسنجد أنّ أفكارهما تتوافق. وعلى العكس، إذ يمكن لهما أن يتفقا إذا كانت نبرات أصواتهما منسجمة على المستوى العاطفيّ، لكن من الممكن عند فحص الأمر بشكل أعمق، أن يظهر تناقض أفكارهم. هذا يُظهِر أنّ العلاج بمركبات ذبذبات الكلام المختلفة والتمييز بينها لا يتمّ بصورة صحيحة.

يظهر أنّ هناك تطوُّرًا في تغيير اتجاه نموذج paradigm عِلم الأعصاب في ما يتعلق بالذبذبات. سجّل الأخصّائيون، على مدى سنوات عديدة، موجات الدماغ، من فروة الرأس أو من سطح الدماغ، المطابقة للتردّد بالذبذبات الكهرومغناطيسية الناتجة عن فعاليّات مجموعات خلايا الدماغ المتعدّدة. التردّدات السائدة تتنوّع بحسب حالات الكائن: حال النوم، أحلام اليقظة، اليقظة، الاسترخاء، التركيز، التأمّل meditation. الإدراك الجديد هو أن هذه الذبذبات تشترك، أيضًا، في محتويات الوعي، وليس في حاله فقط. هناك العديد من أقسام الدماغ والجهاز العصبيّ التي تقوم بالعديد من الأشياء: المناطق المُكرّسة لتحليل الأحاثيث البصرية – مع مناطق فرعيّة لمعالجة اللون، الشكل، رؤية الحركة، العمق، وهلمّ جرًّا – مناطق مُتخصّصة في تحليل الأصوات، الأحاسيس، الحركات، المشاعر، إلخ.

إذًا أخذ بعين الاعتبار جميع المناطق المختلفة المشتركة في وظيفة الإدراك الحسيّ perception، فكيف ستكون لدينا إدراكات وُحدويّة: النظَر، السَمَع، الإحساس، الشعور هي جميعها تحدث في آنٍ واحد أثناء الاستخبار؟ كان الاعتقاد سابقًا أنّ كل شيء كان يُجَمّع في موقع رئيسيّ يقطن الوعي فيه، لكن لم يتمّ العثور على مثل هذا المكان. يتضّح الآن أن المناطق المختلفة المُستغرقة في علاج أوجه مختلفة من استخبار معيّن، تصبح متزامنة بعضها مع بعض في أثناء اتحاد الخبرة، لتُولّد أشكالاً نمطيّة كهرومغناطيسيّة متناغمة واسعة الانتشار. عندما يكون الوعي مُوَحّدًا أكثر، يكون انتشار المتزامنات synchronizations أكثر اتساعًا. عندما أتناول الطعام وأشاهد التلفزيون في الوقت نفسه، وأنشغل في التفكير بأشياء عديدة، دون الانتباه لشيء، من الممكن لبعض المجموعات الفرعية أن تكون متزامنة بعضها مع بعض، لكن لن يكون هناك تناغم شامل. لكن، في لحظة مُعيّنة، إذا وَعَيْتُ لنفسي بشكلٍ كلّيّ ولكلّ شيء يجري داخلي وخارجي فقد يكون التزامن منتشرًا أكثر كثيرًا. درجات الوعي المختلفة تُمثّل مقادير مختلفة من التزامن، وربّما تردّدات سائدة مختلفة. إنّ الخبرة تتجمّع وتتعدّد ليس في الفراغ، في المكان، وإنّما في الزمن، في الحاضر.

غوردجييف أسمى معهده "المعهد للتطوّر المنسجم للإنسان". يعكس هذا المصطلح، الذي تمّ اختياره بشكل حذر، هدف جميع أوجه العمل: أن يحضِر الممارِس إلى وضع شامل من التذبذب المتناغم ليصبح مُتقبّلاً لذبذباتِ وعي أرقّ. إذا كنّا نؤمن بأن الكوْن ينبثق من وعي أسمى، كما ترى الديانات، ويؤيّد ذلك بعض العلماء أيضًا، فإنّ الوعيّ ليْس مجرّد ميزة ناشئة عن دماغ رأس مُركّب، بل هي مادة كوْنية أساسيّة المحتمل لنا أن نصبح متقبّلين لها بنِسَب مختلفة. تمامًا مثلما وَجَبَ على التكرّر النظاميّ للتنفس أن يكون صحيحًا من أجل استيعاب ما نحتاج إليه من الهواء، يعتبر غوردييف أنه وَجَبَ على ذبذبات ثلاثة العقول أو المراكز الرئيسية – الفكريّ، العاطفي، والغريزيّ/الحركيّ - أن تكون متناغمة ومُتّصلة بشكل مناسب من أجل أن نكون متقبّلين لطاقة الوعي الأسمى هذه. يوحِّد الوعي مفاهيمنا؛ كما يتبدّل الغذاء في الجسم لإنتاج الطاقة، نستطيع أن نبدّل الانطباعات لتحويلها إلى مُتكاملات واعية. يعتبر غوردجييف تحويل الانطباعات أنه أعلى وظيفة لائقة لنا في استبدال الموادّ أو الطاقات الكوْنيّة.

من أجل هذا الهدف، فإنّ الانتباه هو الأداة الرئيسيّة. وهكذا، يتجمّع الانتباه مع أحاسيس الجسم، ليسمح بنشوء الشعور بالحاضر. التأمُّل meditation، أو تمرين الجلوس، المعروف في أكثر من تراث، هو عبارة عن هيئات مركّزة لهذه الممارسة. حركات غوردجييف، أو الرقصات المقدسة، تتطلّب التركيز المُجهِد وغير المألوف للانتباه من أجل أدائه بشكل مناسب. بالإضافة إلى ذلك، كان غوردجييف خبيرًا في توجيه "الصدمات" لتلاميذه، لتأخذهم سريعًا من حال نوم اليقظة إلى حال استيقاظ الوعي وإدراك أنفسهم.

تقدّم الذبذبات خدمة متعددة الأهداف في الدماغ وفي الجسم، لأنّ كلّ شيء يتذبذب. لبعض الذبذبات وظائف رمزيّة، مثل الكلام. غالبًا، تكون لذبذبات الحركة وظيفة مفيدة. من ناحية أخرى، من الممكن للموسيقى أن تتألف من أشكال نمطيّة ذبذبية بمفهوم أنه ليس من واجب الموسيقى تمثيل أيّ شيء. فهي تتكلّم معنا مباشرة، بخاصة إلى المشاعر. ولكي يكون لها هذا التأثير، وَجَبَ عليها أن تكون على علاقة قريبة بشكل خاصّ مع إيقاعات الدماغ، وأن تكون مُدَوْزنة معها. فهي تتكلّم معنا بلغة مختلفة، لغة مباشرة، وغير رمزيّة. على هذا النحو، من الممكن أن تكون قوى لكلّ من الخير والشر، وهذا يتوقف على نوع التناغم أو التنافر الذي تُحفّزه في الكائن. أحد الجوانب الرئيسية في ميراث غوردجييف كان مجموعة كبيرة من الموسيقى المُلحّنة مع طوماس دي هارتمان المخصّصة لجلب مستمعها إلى حال التناغم مع الأسمى.

ترجمة: آمال عقل

عودة الى الصفحة السابقة

 


1.   د. كريستيان ورتنباكر - طبيب مختص في أعصاب العيون, موسيقيّ, ومحرر رئيسيّ في مجلة برابولا. اهتمامه في طبيعة وعي الانسان ودوره في الكون قاده لدراسة كلا التقاليد الروحية, بالأخص تعاليم غوردجييف, والعلوم, بالأخص علم الأعصاب neuroscience, عن طريق التدريب الرسميّ لعلم وظائف الأعصاب neurology , الجهاز العصبيّ neurophysiology , وطب أعصاب العيون neuro-ophthalmology .

*  يقرّ غوردجييف: للمحافظة على الحياة، يستهلك الإنسان ثلاثة أنواع من الغذاء: الطعام الذي يأكله، الهواء الذي يتنفسه والانطباعات التي يتقبّلها عن طريق الحواس. للمزيد نوصي بقراءة صفحة  181 من كتاب في البحث عن الخارق. لصفحة المراجع انقر هنا.
الرئيسية | مقدمة | الحركات | الموسيقى | كتاباته | قرائات | تلاميذه | عمل المجموعات | خاص بنا

عن هذه النشرة | اتصل بنا

كافة الحقوق محفوظة ©