عن هذه النشرة  |  اتصل بنا 

 

عودة الى الصفحة السابقة

التطوّر المنسجم للإنسان

ديفيد آبلباوم ¹ 
(David Applbaum)


التطوّر المنسجم للإنسان هي فكرة موجودة منذ القدم. كان من المعروف أن الإنسان يستطيع أن يعمل ليصبح متّزنًا ويمكن إحراز ذلك من خلال انسياب جوانب الشعور والفكر مع جانب الحياة العضوية. جميع المعلمين العظماء تكلموا كيف أن الأشياء العادية تُنوِّم مغناطيسياً وتقصي بعيداً جوهرتنا الغالية، ألا وهي وعي الذات. فهم يتكلمون كيف أن النفس، الأنا، تنسى ميراثها السامي لتصبح أقل شأناً، أصغر، ذات ذكاء منقوص.

جسم الإنسان هو العالم الذي تُصلَّح فيه اختلالات التوازن الموروثة والمُكتسبة. باستعمال منهج للضبط أو للتناغم، يصلّح الفرد تدريجياً حالة اللاتوازن، النوم، الذي يتحكّم فيه العنف أو الفكر غير المبالي.

إنه طريق التذكر. اللاتوازن يتجلى كضعف في الذاكرة. من لحظة إلى أخرى، تعمل النفس على إبقاء وعيها من نفسها. هناك تطبيقات مُحدّدة من عمل غوردجييف تُحيي فُقدان الذاكرة. عندها، يتمكن الشخص من البدء في أداء وظائفه كإنسان سويّ نسبياً. ويكون الفرد قادراً على القيام بعدة أشياء يجهلها.

في البداية، ستستغرق القدرة على التذكّر وقتاً طويلاً. الوهم الذاتيّ الرئيسيّ هو أن الفرد يملك قوى لم تتحقق بعد. لم تكن حتى الآن مشاهدة نقديّة بشأن الخيال والوهم في خدمة الإيغو المعنيّ بتعزيز نفسه كحاكم مسيطر على ميدانه، فهو يتظاهر بامتلاك ما لم يعقد العزم على إحرازه. على سبيل المثال، أن يكون صادقاً. وهو يُفضّل التظاهر والنفاق على الاعتراف بكيفية وجوده واقعيًَا. يمكن لقابلية التذكر أن تُستكشف فقط بفضل المجهود عن طريق تفحص-النفس. في العصور القديمة، اعتُبرت هذه الواقعة قديمة حتى في عهد سُقراط، بالرغم من أن اكتشاف التّسامي (Transcendence) منسوب إليه.

أفلاطون، تلميذ سُقراط، يتكلم عن حياة الإنسان وكأنها موجودة في مغارة. الرجال والنساء فيها، مساجين، مُقيّدون منذ الولادة في حالة ثابتة ومجبرون على مشاهدة خيالات الأشياء الحقيقية، وهي المعروضة أمامهم على شاشة. ومنذ مدة طويلة اعتبروا أن ما رأوه هناك هو واقع. إن تشخيص أفلاطون لحالة الإنسان دقيقة، فالناس يتمسكون بمجموعة عقائد اكتسبوها في جيل مُبكّر من دون التعمق فيها.

العمل الأول لتفحص-النفس هو التفكير النقدي، فعندها يبدأ الفكر بمشاهدة ما هو موجود. فعل المشاهدة يستلزم ضمناً انفصالا بالغ الرقة للمُشَاهِد عن المُشَاهَد. قبل أن يمارَس، تميل قُدرة على فهم الشخص نحو النتيجة الصادرة عن شيءٍ سبق سماعه من شخص آخر، أو عن عادة، أو عن معتقد خرافيّ، وكلها موجودة في طريقنا من خلال الحضارة. فهي ليست ملكنا، لكن يتم التعاطي معها كذلك. تبدأ المُشاهدة بإظهار استعبادنا لمفاهيم شائعة، للشعارات، ولتكوين سطحي للرأي. فهي تلقي ضوءاً على الخمول الأساسي به الفرد متورط، والذي يُغْفِل عنه المرء ليعتبره خبرة العالم. وهي، مع ذلك، تخدم لإثارة الشهية من أجل درجة أكبر من الاعتماد على النفس والبصيرة. هذا يُصبح هدفاً واضحاً أن يكون المرء فرداً يفكر، يشعر، ويتحسّس الواقع بطريقته الخاصة بشكل مستقلّ وغير متأثر.

من الممكن إجراء نظرة خاطفة على معنى أعمق للمشاهدة. إشارة المرور:"انتبه، سرعة محدودة أمامك" تعني شيئاً مختلفًا عن أن تقرأ السرعة المحدودة وأن تعمل ما تشاء، فهي تعني أن تُطيع. بعد درجة من الألفة مع التجربة، يبدأ الفرد أن يفصل ‘النفس عن النفس‘. هناك النفس الخارجية التي تتصرف بشكل أنانيّ باسْم الشخص، لكنها زائفة. عدم أصالتها محجوب بشكل جيد، وكأن مبتكرها هو عقلٌ موجِّه حذق يُعالج كل شيء ببراعة. ثم هناك نفس باطنية، مخفية تقريباً، التي تبصر ما هو موجود، لكنها ضعيفة. الطاعة تكمن في دراسة إطاعة ذالك الصوت الباطنيّ الساكن، الواهن. خلال الدعم المتواصل، هذا هو ذلك الذي يتصرّف بحقٍّ وبوعيّ باسم الشخص. بالرغم من كونه جنينيّ فهو يُظهر وحدة الفكر والشعور، بالإضافة إلى المقدرة على تحسّس واقع آخر.

وهكذا، قد كُشِف النقاب عن احتمال تطوّر عضو جديد، عضو سريع الاستجابة لنداء حقيقيّ. قبل ذلك الوقت، من الجائز أن ينجذب الشخص لصدى بعيد وللبحث عن مصدره. عندها سيصبح البحث خارجًا عن القاعدة وتدريجيًّا، نظراً لعدم وجود توجيه ضروريّ. حالما يبدأ الشخص بشعور وظيفة العضو الباطنيّ، يُرشَد الفرد بقوى باطنية غير قابلة للمقاومة. الرفض الذي لوّث باضطراب وقصور ذاتيّ الخطوات المبكرة باتجاه سلامة العقل، يذوب الآن في وجه التوكيد. الـ"لا" تقابل الـ"نعم"، وتأثيرهما الغامر يكشف الطريق الما بين. هذه هي طريق الوِفاق (reconciliation).

الانسجام هو إذًا الطريق. يُوَفِق الانسجام بين الإنكار الملازم لحياة الإنسان وقوّة التوكيد المُحقّق للخليقة. سلبية الحياة، إرادة النفس الخاصة بالفرد – طريق إرادة الأشياء أن تكون كما يريد الشخص أن تكون – تمتزج مع القوّة التي يتنفّسها ويستوعبها الشخص لحظة تلو الأخرى. النتيجة (إذا أمكن اعتبارها كذلك) هي الاستعداد لإطاعة نداء خليقة وخالقها. من أجل هذه الغاية السامية جداً، هناك حاجة لتعاون كل القوى الإنسانية. تدفُّق التوكيد، الآتي إلى مستوى الإنسان من مصدر لا سبيل إلى معرفته، يساعد في إيقاظ ذكاء (intelligence) مدفون، مختلف عن التفكير الإدراكي (cognitive thinking)، توازنه يُسهل الوعي لتعهّد لا يُنكر، يقع على أكتاف الفرد. الفرد يُدعى ليستجيب إلى الحاجة المنبثقة عن أسمى مستوى، وهي أن يساعد في عملية الخليقة – أن يُصبح إنسانًا بكل ما في الكلمة من معنى. ومن ثمّ، إذا أمكن، أكثر من إنسان

التطوّر المنسجم هو، من ناحية ثانية، غاية لرجال ونساء عاديين. لا يمكن لجميع الناس إحرازه بأعلى درجة لأن الشروط في أحوال كثيرة، غير داعمة. لكنّ الحصول عليه بأعلى درجة محتملة في الشروط المعطاة للفرد، هي دائماً في نطاق حدود الاحتمال المعقولة. من هذا المنظور، إنّ إرشاد النصوص يُساعد، ولكن لا يمكن مضاهاة مساعدة الآخرين الباحثين على خطوط مشابهة. وقبل كل شيء، شدّة أَمنية الشخص للانسجام والسلام - هي المقرِّر النهائي.

ترجمة: طوني لحود

عودة الى الصفحة السابقة

 


1.   ديفيد آبلباوم هو بروفيسور فلسفة في جامعة ولاية نيويورك (SUNY) وتحتوي مؤلفاته على كثيراً من الكتب والمقالات حول الفلسفة الروحية منها The Shock of Love, و Everyday Spirits

الرئيسية | مقدمة | الحركات | الموسيقى | كتاباته | قرائات | تلاميذه | عمل المجموعات | خاص بنا

عن هذه النشرة | اتصل بنا

كافة الحقوق محفوظة ©